(مقاربة نقدية حول مداخلة عبد الله الجباري في كلية أصول الدين بتطوان التي تمحورت حول تصوف ابن العربي و مكانته في علم الحديث..).

(جناية في الطرح وسوء أدب مع الإمام الحافظ الناقد القاضي أبي بكر ابن العربي المالكي الإشبيلي المتوفى سنة 543 دفين فاس المحروسة):

استمعت باهتمام إلى مداخلة ألقاها عبد الله الجباري في رحاب كلية أصول الدين بتطوان حول مكانة الحافظ المجتهد القاضي ابن العربي المعافري في علم الحديث و موقفه من التصوف وذلك بمناسبة المؤتمر الذي عقد في ذكرى هذا الامام الجليل https://fb.watch/cCUOEwWOLv/ وقد خلص المتدخل إلى أن الحافظ ابن العربي لم يكن محدثا ولم يكن متصوفا، وسنناقشه في مغالطاته وأوهامه الكثيرة التي تزيدنا يقينا أنه فوضوي في العلم والمنهج يتكلم بمنهج عين الرضا وعين السخط عوض تقرير القواعد وتحرير الأدلة، فعين السخط تحمله على ثلب ابن العربي بأنه صاحب عقل خرافي(عقل ديزاكتيفي كما قال)، حيث لم يكن محدثا ولا صوفيا، كما حملته العين الساخطة العليلة على سلب مكانة الامام المجتهد أبي إسحاق الشاطبي من مرتبة الإجتهاد والنظر، أما عين الرضا فهي تحمله على وصف الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري بالحافظ المجتهد رغم الأوهام الحديثية الكثيرة التي وقع فيها رحمه الله في بعض ماكتبه كما بين ذلك شقيقه العلامة عبد العزيز بن الصديق رحمه الله في ضوء الشموع.. مما يدل على أن الطرح والنقد يتعلق بالأهواء لا بالعلم والنظر المعتدل المحايد الذي يحمل الناقد على العدل في الحكم وتجنب الشطط والظلم ما أمكنه إلى ذلك سبيلا.

وتجدر الاشارة إلى ان هذه الاتهامات الباطلة ليست من جهد عبد الله الجباري كما ادعاه من عدم اعتماد الواسطة والوسائط في قراءة المتن المعافري، لأن كل هذه الدعاوي مبثوثة في بعض ما كتبه أحمد ابن الصديق الغماري كالإقليد والجؤنة فوجب التنبيه.

وصدق الله العظيم إذ يقول: “يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولايجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى”

وأجدني في هذا المقام أقدم عتابا للقائمين على هذه الكلية المباركة و على رأسها أستاذنا المبجل فضيلة الشيخ العلامة الدكتور محمد التمسماني حفظه الله و رعاه، إذ كان المقام يستدعي دعوة كل من قام بخدمة تراث الإمام الحافظ ابن العربي في مملكتنا الشريفة حرسها الله، و قد تشرفت بإخراج أحد أهم كتبه الكلامية الأولى(الوصول إلى علم الأصول) وهي التي ظهر فيها مشرب تصوفه و تحقيقه في علم الكلام.. كما أعتب على كثير من الباحثين العارفين بتراث ابن العربي سكوتهم عن تهافت كلام هذا المتدخل في شخصية علمية مغربية أندلسية وازنة كالحافظ المجتهد بن العربي قدس الله سره .. ولله الامر من قبل و من بعد .

عودا إلى المتدخل

ذهلت من المتدخل وهو يصف عقل صاحب قانون التأويل بأنه صاحب عقل خرافي ويقول عنه متهكما(ديزاكتيفي !! ) ، وهو الامام الذي صال وجال في نقد الخرافة وأبان عن عقل وقاد متقد جمع بين المعقول والمنقول وكتبه شاهدة على ذلك لا تحتاج إلى بيان، لكن حسبنا أن نردد قول البوصيري:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم.

وانا في مقالي هذا متحير في الذي سأبدأ فيه بنقد أوهامه ومغالطاته الكثيرة.. ، فهل نرد عليه وصفه لشيخ المالكية ابن رشد الجد 520 بأنه كان سلفيا وليس أشعريا مع ما عرف من فتواه المشهورة التي قال فيها عن الأشاعرة ( فلايعتقد أنهم على ضلالة وجهالة إلا غبي جاهل، أو مبتدع زائغ مائل، ولايسهم وينسب إليهم خلاف ماهم عليه إلا فاسق..) فتاوى ابن رشد1/805.. ولا عجب في هذا الوهم لانه سبق ان نسب عقيدة الشيخ أحمد بن الصديق إلى العقيدة السلفية رغم كل مقولاته المعارضة لها جملة وتفصيلا…

أم نرد عليه خلطه بين ابن رشد الجد و حفيده الفقيه المالكي والفيلسوف المعروف، فقد ظن ان ما حرره من نقد للأشاعرة في الكشف عن مناهج الأدلة يتوافق مع رأي الجد الأشعري فيما قرره في فتاويه.. أم نرد عليه زعمه بأن قول ابن العربي عن حديث صحيح بأنه.. مليح أن هذا يجري وفق منهج يمزج الحديث بالأدب!!
مع أن هذه العبارة معروفة عند المحدثين إذا أرادوا وصف حديث مسند بالصحة و علو السند..

أم نرد عليه دعواه أن عزو الحديث إلى مسلم عوض البخاري دليل على عدم معرفة صاحب العزو بالحديث(يشير إلى ابن العربي في نقده الآثم له) ، وهو مانسبه بالفعل والقوة إلى الحافظ ابن العربي مع أن صغار طلبة الحديث يعرفون تقديم المغاربة لصحيح مسلم على صحيح البخاري لاعتبارات منهجية معروفة في مظانها من كتب الحديث.. لكن الجهل و حب الجدال بالباطل يعمي ويصم نسأل الله السلامة والعافية.

لست اريد في هذا المقال الإطالة في بيان مكانة الحافظ المجتهد القاضي ابن العربي طيب الله ثراه، فقد تولى أمر هذا البيان المفصل المسهب لمكانة القاضي كتب كثيرة بدءا بكتب المتقدمين ممن ترجموا له إلى ءاخر المعتنين بتراثه دراسة وتحقيقا و هم كثر بفضل الله تعالى.. ولكن القصد الإلماع إلى بيان بعض المغاطات البشعة التي وقع فيها المتدخل حول شخصية ابن العربي العلمية..

مكانة الحافظ ابن العربي في علم الحديث

حاول صاحب المداخلة جاهدا ان يظهر ابن العربي بمظهر الرجل الدرويش في العلم فهون من جهوده في علم الحديث بعبارات بعيدة عن التحقيق والإنصاف نافيا عنه اتساعه في الرواية و المعرفة بكتب الحديث وهي كذبة صلعاء و شنشنة نعرفها من أخزم.. لأن الناظر الجيد في كتب التراجم التي عنيت بترجمته يعرف جيدا أن الرجل يعود إليه الفضل في إدخال كتب الحديث إلى المغرب والأندلس بأسانيد عالية مليحة، فكثير من أسانيد الاندلسيين متصلة به، وقد أخذ الناس عنه كتب الرواية كالاستدراكات للدارقطني والإلزامات و الطبقات لمسلم وغيرها من كتب الرواية.

وفي ما يتعلق بابن العربي فإن الإمام ابن حجر و هو من هو في علم الحديث يإخذ بتقريرات ابن العريي في نقد المتون، يقول الحافظ ابن حجر (قال ابن العريي في مشيخته: لا عذر للبخاري في إسقاطه لجملة فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله..) لأن الحميدي شيخه فيه قد رواه في مسنده على التمام.. فتح الباي1/23-22) فلو لم تكن له المكانة العالية في علم الحديث ما نقل عنه.. .

ونجد الإمام الذهبي الحافظ الناقد في تذكرة الحفاظ ينقل عنه احاديث بسنده من طريق ابن العربي، كما نجد الحافظ السيوطي ينقل عنه في كتبه، ناهيك عن المحدثين المتأخرين كالمبارك فوري في تحفة الأحوذي الذي يشيد بكتاب العارضة ويجعله من أهم مصادره في كتابه..

وياعجبا كيف يكون من شرح الموطأ في القبس والمسالك وشرح سنن الترمذي غير محدث..!!
إنها والله من أعاجيب الزمان..

فهل يعقل فيمن قال عنه عياض رحل إليه للسماع غير محدث !!

قال الامام القاضي عياض رحمه الله (سمع ودرس الفقه والاصول وجلس للوعظ والتفسير ورحل إليه للسماع وصنف في غير فن.. الغنية للقاضي عياض.).

وقال عنه ابن بشكوال:( الإمام العالم الحافظ المستبحر، ختام علماء الأندلس، وءاخر أيمتها و حفاظها..) أنظر ترجمته في الصلة لابن بشكوال.

وقد سلم له بالاجتهاد عدد كثير من الايمة الحفاظ الثقات كالذهبي الذي وصفه بالحافظ الفقيه الذي ادخل إلى الأندلس الاسانيد العالية و العلوم الجمة (أنظر السير وتذكرة الحفاظ) ومثله الحافظ السيوطي قال عنه: ( أحد من بلغ رتبة الاجتهاد و أحد من انفرد بعلو الاسناد بالأندلس) و مثلهما ابو إسحاق الاسفراييني وولي الله الدهلوي والحجوي الثعالبي وغيرهم كثير لا يحصون كثرة..

وقال عنه ابن ناصرالدين الدمشقي كان أحد الحفاظ المشهورين و الايمة المفيدين من الثقات الأثبات.
وخلاصة القول إن من طالع كتبه وجردها و طالع كتاب فهرسة ابن خير الإشبيلي سيدرك لا محالة مقام الإمام ابن العربي في علم الحديث رواية و دراية.

ولعل ماقاله الحافظ ابن دحية السبتي 633 صحيح بلا ريب حين قال عنه أنه كان محسودا في بلده وينسب إلى مالايليق به..

فلعل الله ادخر له من الحساد من يتكلم في عرضه حال حياته وبعد مماته رضي الله عنه وأرضاه ليزاد له في الأجر.
وأكتفي هاهنا بهذا القدر في بيان مكانته السامقة في علم الحديث التي قررناها من خلال شهادة الحفاظ الكبار فيه و من خلال ما طالعناه بفضل الله في كتبه الحديثية كالعارضة والقبس والمسالك.. وفي سراج المريدين و فهرست ابن خير نصوص كثيرة تبين علو كعبه في علم الحديث وبيان لمروياته فلنحل عليها لمن اراد التوسع و العدل والحق فإن القليل يكفي المنصف والكثير لا يكفي المتعسف.. وقد تكفلت دراسات أكاديمية ببيان منهجه النقدي في علم الحديث فلا نطيل بتقرير ما هو أجلى من ابن جلى.

أما فيما يخص تصوف الامام الحافظ ابن العربي، فإن المتدخل نفى ان يكون الرجل متصوفا باعتبارات واهية فرغم كون الامام ابن العربي كان تلميذا للغزالي وقرا عليه الإحياء كاملا وكان تلميذا للطرطوشي يتجول معه في الربط والزوايا وبينهما تعاهد على التصوف.. و رغم أن ابن العربي كتب سراج المريدين مع ما طالعناه من نفحات إيمانية في مقدمة الأمد الأقصى الذي شرح فيه أسماء الله الحسنى وغير ذلك من تقريراته المباركة في علم التذكير كما يصطلح على تسميته بذلك ابن العربي… ألا أن ذلك كله لم يشفع عند المتدخل في أن يجعله من أهل التصوف او التزكية.. أو أن يجعله من أهل التذكير كما هو مصطلحه، أما نقد ابن العربي لبعض ما في الإحياء من واهيات و صرامته في نقد شطط بعض المتصوفة فهو لايخرج الانسان من دائرة أهل التزكية، فكل المسلمين لهم حظ من التصوف والسلوك قل أو كثر، فهل يقول عاقل إن الشيخ زروق لم يكن متصوفا لأنه انتقد المتصوفة في قواعده !!
أم ان التصوف الحق والتزكية الايمانية منهج قرءاني في التعبد والنسك..

ومن اللافت للذكر ان ينتبه الباحثون إلى ان ابن العربي كان صاحب مشروع مكتمل في المعرفة والزهد فليتنبه بذلك.

وقد أفردت الدكتورة عصمت دندش حفظها الله مباحث لطيفة عن تصوف ابن العربي كما في مقدمة السراج لعلنا نقتبس مما سطرته شعلة نيرة في بيان ملامح التصوف عند ابن العربي مما يمكن أن يستضاء به في هذا الموضوع، ومن اراد التبحر فليرجع للكتاب ومقدمتها النفيسة و إلى ترجمته في سلوة الأنفاس.

وفي النص الذي حققته من كتاب الوصول لابن العربي ذكر مقامات العلماء جريا على مصطلح أهل التصوف في ذكر القطب و الوتد والابدال والغوث وفيه مدح لمسلمة ابن القاسم الصوفي المحدث المعروف قبل أن ينتقده في العواصم مما يدل على مشرب تصوفي وتطور فكري عند ابن العربي لا تخطئه العين(راجع ماذكره المقري قي نفح الطيب و ازهار الرياض) .

قال صاحب سلوة الانفاس شيخ الاسلام محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله 3/250(ففضل ابن العربي لايجهل، ومكانته في الخير والصلاح والعلم والدين والصرامة في الحق لا تغفل، وكفاه ذلك خصوصية و ولاية ومكانة و منزلة وعناية، وقد تقدم عن صاحب أنس الفقير أن لزيارة قبره بركات، وعده الشيخ العارف أبو حامد مولاي العربي أحمد الدرقاوي في رسائله من جملة أولياء هذه الحضرة بل عده فيها – في محل ءاخر-من شيوخ الطريقة…).

أشار إليه المدرع في منظومته
والشيخ ذو الإجلال قطب المغرب عمادنا محمد ابن العربي
يكنى أبابكر لدى الجمهور. وهو المعافري في المأثور
المفرد العادم للمثال في الحال والعمل والمقال

والقطب عند أهل التصوف قد يدخل فيه العالم المتبحر في العلوم الذي ينتفع به المسلمون في معرفة الشريعة رغم ما قد يرى منه ويظهر عليه من سلوك مسلك أهل الظواهر.

ولست أنزه الإمام ابن العربي عن أن يتعرض للنقد فالعصمة لرسوله صلى الله عليه وعلى ءاله وصحبه، ولكن النقد للايمة الكبار وجب أن يكون مشفوعا بالعلم والأدب لا بالخبط والهبد وقلة الذوق والحياء.

وللحديث في هذا الموضوع بقية نذكره في المقال المقبل بحول الله نحاول أن نستعرض فيه علاقة ابن العربي بالتصوف و التزكية الإيمانية.. رحم الله الامام ابن العربي وأجزل له المثوبة. والحمد لله أولا وآخرا.

• twitter
• whatsapp